الأحد، 12 يناير 2014

أحدهما مفرط في دينه، والآخر خائن لتراب وطنه

(1)


- أنا هنا منذ ثمانية سنوات وبضعة شهور، وصلت إلى مصر بصحبة رفقاء من اللاجئين الصوماليين بعدما تعرفنا على أحد المهربين الذين يتقاضون عمولة نظير المساعدة في اجتياز الحدود.. قبل هروبي بيومين رأيت أخوتي وهم يقتلون في حافلة كنا نستقلها.

صمت قليلاً، فتابعته حتى أكمل: أنا لم أرى أمي منذ ثمانية سنوات. رفع عينيه الشابتين ناظراً إلى مبتسماً ثم سأل: متى رأيت والدتك آخر مرة، صباح اليوم؟ .. أطرق مرة أخرى لأسفل متابعاً: هل تدري ما الحكاية، أنتم تملكون جيشاً قوياً، لذلك لازالت دولتكم باقية على حالها، أما نحن... لم يكمل كلماته حتى أشاح بوجهه بعيداً كأنما تثير ذكرى بلاده ألماً دفيناً بداخله، ألم الصراع ودوائر الشر والجنون والقتل البخس الذي لا يتوقف.. هو لا يكاد يذكر بلاده حتى يُنكئ بداخله جرحاً غائراً لا يندمل... أنتم تملكون جيشاً قوياً، قالها غير عابئ باخفاء حسده وانصرف.



(2)


- لقد اصطحبوا خالك مرة أخرى إلى السجن. قالت بنبرة حزينة متماسكة. -لا ندري تحديداً من هم أو إلى أين اصطحبوه، استيقظنا في ساعة متأخرة على طرق عنيف لنجد من يسألون عنه ويقولون أنه مطلوب بسبب اشتراكه في مظاهرات تنظيم الاخوان، وأنه بذلك يساند الارهاب. صمتت برهة ثم استأنفت: لقد عدنا كما الأيام السابقة، وهذه المرة أسوأ.

حاول أن يتمالك نفسه وهو يتحدث إلى زوجة خاله صبيحة يوم اعتقاله، ذلك الرجل الذي يمتلك من الجلد والدأب ما يكفي لاشعال النشاط في حي ومدينة بأكملها. أجهش بالبكاء فور اغلاقه المكالمة، تذكر حماس الرجل في أوقات الابتلاء وأوقات النصر، بكى بكاء قلب يكتوي بنار الحسرة والألم. كيف عساه يمضي ساعاته الأولى في سجن الطغاة؟ وإلى متى هي باقية دولة العسكريين القامعين العتاة المجرمين؟ وأي بلاء أشرف وأعظم ممن داوم في صبره على المحنة فاتصلت مقاومته جيل من وراء جيل؟ دولة العسكر باقية ما بقي العسكر، تلك هي العظة والدرس الذي تعلمناه عبر آلام السنوات الطوال، فمتى زالوا وانقضوا، انقضت دولتهم.

***

برغم الخطوب والأزمات الكبيرة، أبقى الصديقان القديمان على صداقتهما على الفيسبوك، وإن جفت أواصر الاتصال بينهما في العالم الحقيقي. لا تتعدى علاقتهما أن يزور أحدهما صفحة الآخر مطلعاً مشفقاً ممتلئاً قلبه بالرثاء، يتفقد ما ينشره صديقه القديم ولا يدري كيف صار حاله إلى ذلك الحد من الجهل وانعدام الرؤية؟
يكاد أحدهما يجن من استهانة صديقه بما هو صريح من أوامر الدين وخذلان الحق والقعود عن نصرة حملة رايته من أصحاب الصبر والجلد ساعة الامتحان، بينما الآخر متعجب من تمادي صديقه وسعيه الدؤوب لاشعال فوضى وشر إن بدءا يوماً لا يكادا ينتهيان.. أحدهما مفرط في دينه والآخر خائن لتراب وطنه، وكأن من استدعى يوماً القومية الدينية ومن سلك دربه ليناطح بها عقيدة وطنية راسخة لم يكن يتخيل أن تصل العصبية بأهليها اليوم إلى ذلك المدى البعيد..؟!