الأحد، 12 أبريل 2020

كوفيد-١٩ - قصاصات انستاجرام وتأملات أخرى

استلقى خالد على الأريكة الوثيرة التي تتوسط غرفته يطالع الصور المحفوظة على هاتفه ليشاركها على انستاجرام. استدعت مخيلته مع الصور التي يطالعها ذاك الصفو الهانئ، النهار الممتد والليالي الساهرة وصخب الأصدقاء. تذكر سفرته إلى جزيرة يونانية مع أصدقائه الصيف الماضي. اختار صورة من حفل صاخب على الشاطئ في ليلة أمضاها كاملة رقصاً بلا توقف. صورته بقميصه الأبيض المفتوحة أزراره حتى منتصف صدره وضحكته الواسعة وصديقته مايكا يذكرونه بطاقة فيه كاد أن ينساها، بهجة انطفأ نورها فيه وانذوت. إلى جانب صورته على انستاجرام يرى قصة هبة محمود، زميلة المدرسة الثانوية والتي أنهت قبل شهور قليلة زيجة لم تدم شهوراً، تشارك أصدقائها موهبتها المكتشفة حديثاً فيما يبدو في الطهي. وذلك أحمد فؤاد جاره القديم في قصة أخرى ينشر كوميك ساخراً من الوباء الذي ابتدأ في الصين وانتهى منها سريعاً فيما يوحي بالمؤامرة.

خفوت في حركة الانسانية، كأن جسد الحضارة قد ضربه المرض وهد عنفوانه. الجموع الغفيرة انذوت وانحسرت حائرة إلى مساكنها، تطالع وتنتظر في دهشة -وبعض شماتة- ما هو قادم. الأنباء الآتية من بلاد الشرق والغرب مريبة ومقلقة، تارة تدعو للفزع الذي يطير على إثره المنطق وصلاح الفكر والفعل، وتصعب معه لملمة شتات العقل والحكمة، ثم تارة هي أخبار تهدئ الروع وتسكن النفوس المضطربة بهول الأحوال بأن ما هو جاري لا يستدعي الصخب الداعي للهوس. ومع هذه الأخبار وتلك يرى الناظر في مرآة حال الانسان فيندهش لضآلة مكانتها وهوانها، وفي ذات الوقت يرى منها وفيها -على غرابة ذلك- تمام تجلي العقل الانساني وجل سطوته.

قصة أخرى تظهر على انستاجرام، مها تشارك فيديو تقلد فيه جزء من مسرحية مشهورة بواسطة برنامج تيك توك، هذا مضحك جداً. أعاد خالد مطالعة القصة ثم أرسل لمها رسالة يداعبها. أثارت القصة مشاعر قديمة لدى خالد. هو لايزال قابعاً في المكان ذاته على الأريكة المتوسطة غرفته، تداعب خياله الآن مشاعر قديمة كان يكنها لمها، يرى في عاطفته القديمة تجاهها تجلٍ لصورته هو ذاته حين كان أحدث عمراً، أكثر طاقة وأقل حكمة. أين تبدأ العاطفة، ولماذا تتبدل وتصير إلى العدم؟ كيف الخلق إن كان الحكم بالتغير ثم الفناء سابقين على كل شيء؟

لماذا يشارك خالد وأصدقائه قصص ما قبل الحجر الصحي الالزامي؟ ربما، أكثر من أي وقت مضى يدرك خالد ما يفتقده حقاً، ما هو مهم له ويود لو يفعله عندما تعود الحياة لحالتها العادية. أشد ما يشتاق إليه الآن هو الشغف، الشغف بلقاء من يحب، والشغف بممارسة هواياته التي انقطع عنها قسراً. شغف ممارسة الرياضة، والسفر.

أدعية وأذكار تتضرع رجاءً في كشف الغمة ورفع البلاء، تلك قصة مريم ابراهيم اليوم على انستاجرام، تأتي في إثر ما شاركته بالأمس من أخبار عن تجارب سريرية باعثة على الأمل في الشفاء من الداء المستطير. تجارب سريرية متقنة التصميم والتخطيط تجريها شركات الدواء، كلمة العلم فيها نافذة، لا مرد فيها... العلم، كقيمة ومثل متجرد، عصي على التطويع، صلف، ولا رجاء من أن ينحني يوماُ رافعاً الانسان بذاته فوق الموجودات. الانسان، في نظر العلم، مجموعة من الذرات والجزيئات استطاعت الهروب مؤقتاً من القانون الكوني القائل بحتمية الفوضى واستحالة كل نظام في آخر المطاف إلى شتات. العلم في قبضة الانسان ككشاف ضوء يسلط شعاعه على ما خفي عنه واحتجب، لكنه في الوقت ذاته لا يقر له بأي مكانة مميزة ولا يعر غروره اعتبار. هل انتبهت مريم لتلك المفارقة، فكر خالد، أن الدعاء اليوم لإله غيبي محتجب لا يستقيم مع رجاء الأمس في نجدة تأتي على يد العلم؟

أرقام، بيانات، احصاءات ومعادلات رقمية تفضي بأعداد الاصابات والوفيات والفئات العمرية الأكثر تهديداُ من بطش الوباء. من المسئول عن ذلك كله؟ من بدأ هذا العرض العبثي ومن يحرك خيوطه؟ إن المنطق القائل بمنشأ الفيروس -وكذا الانسان- بطريق الصدفة القائمة على غزارة الأعداد والمحاولات هو منطق يستهين بمكانة الانسان ولا يعبأ قليلاً أو كثيراً بغروره المنتفش بفعل قوته المبسوطة على الأرض وامتداد حكمه وسببه للسماوات والأجرام العلوية. كيف لكائن في بهاء الانسان مدرك ومكتمل القدرة والارادة أن يكون نتيجة لا سبب؟ نتيجة لتفاعلات عمياء متكررة لا حياة فيها ولا رغبة لها أو في ذاتها لخلقه وفعله وتكوينه حتى تنتهي به، بمحض الصدفة، سيداً على الأرض باسطاً سلطانه على غيره من الأحياء؟ أليس الأدعى أن يكون سبباً لتحقيق ارادة أعلى لذات متجلية ومحتجبة تحرك وتسيّر وفي الوقت ذاته، ربما، تأمر وتحاسب؟

فيروس لا معلوم منشأه وقتاً أو مكاناً، خرقة بالية من شريط جيني لا ترتقي لمكانة الأحياء وجدت طريقها للجسد الانساني فسكنت فيه. قادرة على التكاثر والترقي بغير ادراك، وكأن مفارقة الحال ليست فقط في تفاوت الأحجام بل الأفهام أيضاً: كيف لمادة ميكروسكوبية عديمة الادراك أن تعصف بحال الانسان بكل ما وسعه من استعلان الذكاء واحكام المنطق والفعل والنشاط؟

أهي حرب منظمة مبدأها نشر الوباء ومنتهاها سلطة عالمية عاتية تنبسط بلا هوادة على الجميع من الشرق أو الغرب؟ لم لا، فغير ذلك من المنطق تستتبعه آثار القول بالصدفة في نشأة الحياة وصيرورة الناس والأحوال. ذلك أمر يستعصي ادراكه على غالب الأفهام، حتى وإن كان مبعثه صحة النية في تقصي الحق بغير حساب للمأثور والمتداول من الفهم. ذلك أنه يذكر السائل عن حال الانسان بأن وجوده وانتهائه في ذاته غريب. غرابة المنشأ والمنتهى إنما هي للمتأمل كغرابة الفيروس الذي ظهر فجأة.. ألابد لهما من صانع...؟