الخميس، 10 يناير 2013

حقنة بنج

لسوء حظه أنني ما أن رأيته حتى تذكرت وجهه على الفور، تذكرت قدمه الملفولة بالجبس ومشيته البطيئة وعكازه، وتذكرت كيف بدا في زيارته السابقة حين أتى للعيادة في مصاحبة صديق له ونظرة الرعب التي كادت أن تقفز من عينيه حين رأى حقنة البنج والكلمات التي راح يرددها في تكرار وبصوت عالٍ دون وعي "من غير وجع والنبي – أنا بخاف من دكاترة الأسنان"، وتلك الحشرجات غير المفهومة التي أخذت تطلقها حنجرته بغير سبب واضح معبرة عن مدى اضطرابه وارتجاف أوصاله من تلقي الحقنة. تذكرت صوته الذي كان يحاكي أصوات الأطفال عندما سألته عن سر مبالغته غير المبررة ازاء "شكة" الحقنة وحين قال بنبرة ملؤها الانكسار والمسكنة دون اكتراث لضحكات صديقه العابثة: "أصلي بخاف من البنج!". تذكرت كل ذلك حين طالعني في زيارة أخرى بعدها بأيام وقد خلع عن نفسه رداء الخوف، فقد أتى هذه المرة مصاحبا زوجته. انطلق لسان الرجل ثائرا في كل صوب، لا يخشى حقنة ولا يهاب "شكة أبرة"، وصار الرجل بقدرة قادر يمتلك قلبا حديدي ! استبدل قاموس الرعب بمختلف مفردات الشجاعة، وتأوهات العيال بصيحات الرجال، وحين مازحته بقصد المداعبة:"ضرسك المرة دي هيحتاج حقنتين بنج مش حقنة واحدة"، وجدته يجيبني بثبات المحارب المغوار في المعركة وهو ينظر صوب زوجته بصوت كاد أن ينفجر له زجاج الغرفة: "أدّي يا دكتور ولا يهمك إن شاء الله عشر حُقن !". وعلى الرغم من توهجهما وبريقهما المستعر، إلا أن عينا الرجل سرعان ما أنطفأ ألق الشجاعة فيهما لحظة أن وقعتا على حقنة البنج، وانقلبتا من فورهما لسيرتهما الأولى، وما أن اطمئن الرجل لمواراتي بظهري لزوجته عن رؤيته، حتى انطلق يستجدي انسانيتي بصوت هامس لم يكد يخرج من فمه من فرط الخوف:"بالراحة يا دكتور والنبي، أصل أنت عارف .. أنا مش بحب الحُقن !". جاء صوت الزوجة من ورائي مباغتا الرجل:"سَمّي وماتخافش"، فظهر عليه الوجل واضطرب كأنما انكشف أمره، فعلى الفور بادرتها بالاجابة عنه لأجنبه حرج الرد عليها بنبرة راجفة تطيح بمجهوده المضني المبذول منذ جاءا:"لأ هو جامد قوي، ومش بيهمه حقنة البنج"، فندت عنه نظرة ارتياح محملة بمعاني العرفان وكأنما تقول لي "تشكر يا زوق"، فرددت عليه النظرة بنظرة أخرى باسمة تقول "الرجالة لبعضيهم".

انتهت جلسة علاج العصب، وغادر الاثنان؛ الرجل وفي اثره المرأة يسيران في تؤدة وعلى مهل، استند الرجل على عكازه وقد بدا وكأنه لم يعتد استخدامه بشكل كامل بعد، لكنه –مدركا لمصاحبة زوجته- لم يجعل من عكازه ذلك أداة تفرط في أسباب وقاره، فبذل جهدا مضاعفا حتى يمشي مشية الرجال التي يؤديها مستعينا بعوامل الوراثة الجينية والتراث الشعبي في خليطهما الأزلي المدهش، فاستقام ظهره، واستطال الرجل منفوشا كالطاووس مختالا بسحر هيبته، وخلفه سارت المرأة في اباء مشمولة بما يفيض عليها رجلها من فخر واعتزاز واحسان وكرم.