الجمعة، 6 نوفمبر 2015

كريستوف

كان نهاراً آخر بارداً قد أشرق على حي نويكولن في جنوب العاصمة الألمانية برلين، في مخبز ومقهى صغير كان كريستوف جالساً في بقعته المفضلة يرتشف ما تبقى من قدح الشاي الأخضر وينفض عن بنطاله فتات المخبوزات الطازجة التي التهمها لتوه، لم تكن من هواياته مطالعة الصحف أو القراءة، ليس بسبب ضعف الابصار الذي حل ضيفاً ثقيلاً عليه في الأعوام الأخيرة، لكن بسبب ضيقه بكل خبر جديد في الصحف أو نشرات الأخبار، لا جديد إلا عن الحروب والأمراض وفشل أهل السياسة والافتصاد في إدارة الفوضى التي خلقها سابقوهم، صار العالم ركام من المآسي، وصارت غاية وكالات الأنباء تذكير الناس بالحقيقة الأزلية التي مفادها أن الانسان والعالم يسيران سوياً إلى رحلة فناء محتوم. عندما جاءت النادلة ترفع من أمامه قدح الشاي والطبق الفارغ، سألته بلطف إن كانت فطيرة الجبن قد أعجبته، أومأ كريستوف مبتسماً بدوره وأجابها: تماماً كما اعتادت هيلينا أن تحضرها. ضحكت في بساطة واستدارت حاملة صينيتها عائدة للمطبخ، قوامها ممشوق كمهرة تشق صحاري العرب أو الشمال الأفريقي، لعل شعرها الفاحم وأهداب عينيها الجامحة دليل على أصل عربي. لم يسألها، اكتفى بافتراض أن أباها عربي وقد تزوج امرأة من ألمانيا الغربية، لعل أمها تكون واحدة من الألمانيات الائي عرفن غطاء الرأس كبدويات الصحاري، أو ربما تكون من تلك النسوة المستترات في لباس أسود الائي لا يخرجن من بيوتهن إلا بإذن ولا يزورن بيوت أهليهن إلا بعد مباحثات طويلة مع أزواجهن. ظل يراقبها صامتاً وكل ذلك يجري في باطنه، وعلى عكس ما أظهر من لطف أراد لو يبادرها بسؤال فج: هل كان أبوك يضرب أمك حتى يكسر عظامها؟ هكذا رأى في التلفاز في إحدى البرامج الوثائقية عن الحياة في أفغانستان، المرأة هنالك لا تخرج من بيت زوجها، وإذا خرجت فبعد إذن ومشقة، وتكون حين خروجها للشارع مسربلة بعباءة لونها قاتم منفر والغرض واضح، فالمجتمع كله واقع في قبضة ذكورية، والمرأة فيه متاع لصاحب الحق والملكية، ومطمع لكل متنطع ومختل، وهم هناك يضربون زوجاتهم وأبنائهم، ويربونهم فقط على القرآن، كل شيء من ذلك الكتاب، حتى العلوم والجغرافيا والحساب! شأنهم في ذلك شأن كل تلك الدول التي دخلها الاسلام.. إنها أمم عجيبة تثير النفور إلى قلبه ولا يساوره إليها أي فضول أو عاطفة، ولا عجب لديه أنها تعيش في ذيل الحضارة. لو حل بأوروبا الخراب يوماً ما وهي فكرة غير بعيدة عن من هم مثله من الميالين للتشاؤم، إن حدث ذلك وسأله أحدهم إلى أي بلد يفضل النزوح، فستكون اجابته قاطعة بلا ثانية واحدة من تفكير: أي دولة غير تلك الدول المسلمة. ظل يتفحصها في هدوء في غدوها ورواحها، يصور لنفسه طفولة بائسة عاشتها، ومشهد هروبها من بيت والديها حين حاول أباها أن يفرض عليها الزواج من صديق عربي له يسكن قرية مجاورة لقريتهم في ريف ألمانيا أو النمسا أو سويسرا، مغامرة هروبها إلى المدينة الكبيرة فصل ضخم في تلك المسرحية الوهمية التي راح يخط تفاصيلها في ذهنه بمزيج من الاشفاق والتسلية.

سرح ذهن كريستوف إلى قضية الايمان التي طرحها جانباً منذ زمن، البعض يقول أن الله هجر العالم، وهو لذاك الرأي أميل، والبعض الآخر تراه مؤمناً بإله له في كل شاغلة من حياة الناس ارادة وسبب، والفرد من أولئك إذا أوغل في بحور التدين وتمادى، تجده يسير في الشوارع والساحات خاطباً في الناس زاعقاً فيهم، يدعوهم للعودة لحظيرة الرب قبل فوات الأوان. أولئك المتحمسين المبشرين بنهاية الزمان مدعاة للضحك والتأمل أحياناً، إن كان في العالم فريقان أحدهما عاقل والآخر مجنون، فأي فريق نحن وأي فريق هم؟ هو لا يعتقد في الإله، يراه أكذوبة خلقها البشر لينعموا بالسلام الداخلي والكسل، آراؤه أحياناً ما تجلب عليه انتقادات الناس من حوله، كان آخرها رأيه في أزمة اللاجئين العرب الآخذين في اغراق أوروبا والذي أذاعه على الانترنت دون تدبر بعدما شاهد مقطع يجز فيه أحدهم رأس أسير أوروبي في تلك البلاد البعيدة وهو يصيح "الله أكبر" في نشوة فرح جنوني، ألطف ما وصفهم به أنهم كجراثيم أو أورام سرطانية ما أن ستحل بالجسد الغربي حتى تفتك به. هو مفرط في تشاؤمه وعصبيته ضد أهل الشرق، وإذا واتته الفرصة وربما بعض الخمر فهو قادر على قول ما هو أشنع. غير أن عصبيته لا تنسحب على سكان الشرق برمتهم، فالأمم المؤمنة بالبوذية والهندوسية مثلاً في رأيه في غالبها أمم مسالمة ولا تجنح للعنف إلا فيما ندر، ولا تعتقد في فكرة الغزو ومبادرة الاعتداء، والرجال هناك لينون مشهورون بالذكاء والعمل بالتجارة، ويغلب عليهم هدوء الطبع والمعشر. كانت هيلينا هي الوحيدة القادرة على كبح شطحاته، لم تتوافق أفكارهما أبداً، كانا على طرفي نقيض، هي تؤمن بإله يخلق ويسيّر ويزن الأمور بميزان عدل، تكره الاعتقاد بأن العالم جاء بالصدفة حتى وإن وقف العلم ببروده وصلفه راسخاً إلى جانب هذه الحجة. كانت نقاشاتهم هادئة بلا انفعال أو توتر، لم يدّع أيهما أبداً يقين مطلق، وكان أثر تلك النقاشات على كليهما لطيف مهدئ ويقيهما شر الغلو والتشدد في الرأي، وكان ذلك يغذي بداخل كل منهما شك حميد فيما يركن إليه من اعتقاد، ودائماً ما كان الأمر ينتهي إلى تذكيرهما بأنه أياً ما كان مبعث الضياء والالهام في الروح فهو ناقص ولا يرقى لليقين الخالص، ولا يستأهل غروراً ولا استعلاءً أحمق على العالم. فات على فراقهما ما يزيد على الثلاث أعوام الآن، وهو منذ ذلك الحين لا يجد من يكبح جماح شطحاته ويروض وحش خصومته مع الأديان والآلهة.


كان سقوط الجليد بالخارج قد توقف. أحكم ربط الكوفية حول رقبته وارتدى قفازه الجلدي، ترك الحساب وزاد عليه اثنان يورو للنادلة ذات الشعر الفاحم. أشار لها مبتسماً وهو يهم بالمغادرة. انتابته فور خروجه من المقهى نوبة سعال مباغتة، الهواء بارد وقوي هذا الصباح، آمل ألا يكون قد أصابته أنفلونزا، آخر مرة أصيب بنزلة برد وحمى شديدة قعد على اثرها أسبوعاً كاملاً في الفراش. نعم هو ألماني الجنسية ويتمتع بمزايا المواطن الألماني كاملة، رعايته الصحية مسئولية الدولة وذلك بلا شك شيء رائع ولكنه لا يكفي عنه مخاوف تقدم العمر والشيخوخة، وهو لذلك يسأل نفسه دوماً: أكان محقاً حين قرر العزوف عن الانجاب والاعتماد على الدولة في رعايته حين يصير به العمر إلى إلى ما صار إليه اليوم؟ منذ توفيت زوجته هيلينا وهو يسأل نفسه مؤخراً ويلح في السؤال، كيف مضت حياته ولم يجلب للدنيا ابن أو ابنة؟ مر الموضوع بالتأكيد بذهنه وقت أن كان قادراً، وأسهب فيه مع هيلينا نقاشاً وبحثاً، ربما دار ذلك النقاش في ظهيرة صيفية مشمسة بعدما فرغا من لعب كرة القدم سوياً في احدى الحدائق العامة، أو لعله كان في تلك الرحلة الطويلة التي جابا فيها أوروبا طولاً وعرضاً طوال شهرين كاملين، لا يذكر تحديداً فقد كان ذلك منذ زمن طويل، لكنه يذكر أنهما خلصا في ذلك الشأن إلى قرار واعٍ ومسبب، والآن جاء أوان دفع الثمن بعدما تركته هيلينا وحيداً في الحياة وفي هذه المدينة الكبيرة. أهله أو من بقي منهم منثورين في الأرض كحبات عقد منفرط، إذا ذكره أحدهم فببطاقة معايدة أو رسالة على الهاتف من العام إلى العام. زيارته الدورية للطبيب قاسية كقسوة الهواء الذي يخترق معطفه الشتوي المبطن بالفرو، أقسى ما فيها نظرة الطبيب الجامدة وهو يقرأ عليه نتائج التحليلات والفحص مؤكداً أن حالته جيدة، بامكانه هو قراءة الأرقام لنفسه إن شاء، وإن لم ير رقماً باللون الأحمر أو مثل ذلك فحالته في الغالب جيدة، ما حاجته إلى طبيب في تلك المسألة؟ ما يريده حقاً هو طبيب ينظر إلى عينيه حين يقرأ عليه مدلول تلك الأرقام، يبتسم إليه مطمئناً ويقول له أنا أراك انساناً كاملاً، أنت تعني لي أكثر من ذلك الملف أو تلك الورقة التي أمسكها بين يدي الآن، لو فعل طبيبه ذلك ثم أنزل عليه خبر اصابته بالسرطان أو تليف الكبد أو حتى قال له بقي لك من العمر اسبوعين دون ذكر السبب لربما كانت الزيارة أكثر راحة لقلبه. اشتد عليه السعال فوقف يلتقط أنفاسه، ثم عاد يسائل نفسه مشدوهاً من أثر السعال المفاجئ الذي كأنما انتشله فجأة لعالم مظلم موحش يهابه ولا تطيق روحه على تحمله دون رفقة من أهل، أي حمق ورعونة ارتكبنا يا هيلينا، وأي نذالة تلك، تتركيني هكذا وحدي لأتجرع ثمن قراراً اتخذناه سوياً وقت أن ظننا أننا سنعيش على ظهر هذه الدنيا إلى الأبد؟