الجمعة، 27 يناير 2017

جوليا

"هل اصطحبت مفاتيحي؟" فكرت جوليا لنفسها وهي تفتش في محتويات حقيبتها عن المفاتيح للمرة الثانية في الدقيقة الأخيرة، هي حانقة للغاية ولا تكاد تملك من فكرها أو ذاكرتها شيئاً الآن، بداخلها حمم من الغضب ستكبها على باستيان صديقها (أو صديقها السابق إن شئت) لحظة أن تراه، أو ربما يندلع بركان غضبها في وجه أول عابر في الطريق يرتكب رذالة بحقها، كم تتمنى أن يعترض طريقها شاباً يحاول بسخافة ملاطفتها فتسدد إلى وجهه سلسلة اللكمات التي تعلمتها في دروس الدفاع عن النفس التي حضرتها العام الفائت حتى تدمي أنفه ويسقط على وجهه مغشياً عليه، أو أن تجتمع الأقدار فتلقي بالصدفة في طريقها فتلتقي مديرها بالعمل الذي لطالما أثقل مشاعرها بصلافته وتقلبات مزاجه حتى أنها صارت تمضي عطلات نهاية الاسبوع تبكي دون سبب واضح، تتمنى لو تراه الآن فتفرغ على مسامعه ما ظل حبيساً بداخلها، ستخبره كم تكرهه وكم تكره الشهور القليلة الباقية فيها تحت امرته في العمل، ستخبره أنه دون علمه (أو بعلمه ربما) جاثم على حياتها كمرض كئيب، فلربما لو أخرجت ما بداخلها لخفت ذلك البركان.
في أول خطوة لها خارج الباب الحديدي لمنزلها انزلقت قدمها المسرعة فوق الجليد المجمد على الرصيف، كادت تنكفئ على ظهرها لولا حركة بهلوانية بيديها في الهواء وبعض الحظ، ركلت حانقة بسن حذائها الصغير قطعة الجليد الزلقة الملتصقة على جانب الرصيف ثم رفعت غطاء معطفها الشتوي المغطى بالفرو على رأسها وتأكدت من احكام وضع سماعات الأذن واتصالها بهاتفها، زادت من صوت الموسيقى بلا التفات لترى إن كان أحدهم قد لاحظ الفقرة الأكروباتية الفائتة ومضت مسرعة وبحذر من الثلوج المتجمدة على منخفض الطريق الواسع، على مبعدة رأت اشارة المشاة حمراء وفي انتظار المرور أمامها أربعة من الرجال ضخام الجثث، تمهلت قليلاً وهي تنظر إلى الاشارة المعاكسة حتى تضبط توقيت وصولها لرصيف الاشارة مع توقيت تبديل ضوء الاشارتين فلا تضطر للوقوف وسطهم.
***
"ياللغرابة، أنا لم أر السيارة قادمة على الاطلاق، وكنت أسمع الموسيقى الصاخبة، كيف إذن توقفت فجأة في ذلك التوقيت المدهش؟! كم أنا ممتنة أنني لازلت أمشي وأتنفس وأرى الأشياء من حولي، سأخفض من صوت الموسيقى في أذني وأمضي في طريقي إليك، يا عزيزي باستيان، بلا غضب على الدنيا".
***
كان أحد أولئك الواقفين في انتظار الاشارة هو محروس. ليست تلك المرة الأولى له في زيارة ميونخ، كان قد زارها قبل عامين في مهمة عمل أخرى. اليوم هو الأول في أجازته وقد قرر أن يمضيه وحيداً في اكتشاف المدينة، كان قد انصرف لتوه من زيارة أحد معارض اللوحات المشهورة، اليوم لايزال في منتصفه والسماء رمادية لا يكاد يتميز فيها قرص الشمس المحتجب وراء السحب الكثيفة،  غلب محروس الجوع والارهاق، هو مزيج ألفه منذ بدأ رحلة فقدان الوزن قبل ثلاثة شهور مدفوعاً برغبة في التخلص من ذلك الكرش الضخم ودهون الوجه والرقبة الذين يحملهم مسئولية عدم ارتباطه برغم استعداده المادي والمعنوي الكاملين منذ بضعة سنوات. أمضى العشر دقائق الفائتة جيئة وذهاباً في الميدان ذاته في حين يصارع الجوع بضراوة في ربوع معدته الخاوية احساسه بالذنب لقرار كسر الحمية. توقف أمام مطعم تركي يصنع شطائر الدونر الشبيهة بالشاورما، كاد يدلف للداخل حتى عدل في اللحظة الأخيرة حين فكر أنه إذا ما قرر أن يكسر روتينه الغذائي في ميونخ فلابد إذاً من تجربة شيئاً مختلفاً وليس مجرد سندوتش شاورما آخر كالذي اعتاد على أكله. عاد للميدان نفسه ووقف للمرة الثانية في انتظار الاشارة يحدق في الأشياء والناس من حوله، ذهنه صاف بعد ثلاث ساعات أمضاها في مشاهدة لوحات فنية تجسد معاني الحضارة والفلسفة الغربية، أدرك أنه الآن يعيش واحدة من لحظات صفاء البال لمسافر وحيد غريب في مدينة أوروبية. رأى سيل السيارات المار أمامه ينقطع، نظر لليسار فوجد السيارات تتباطء متراصة عند خط الاشارة، هي ثواني وينقلب الرجل الأحمر أمامه لرجل أخضر مؤذناً له والشباب الثلاثة الواقفين إلى جانبه بالمرور، وضع يديه الباردتين في جيب معطفه ثم ألقى نظرة خاطفة أخرى لليسار في تلقائية، فرأى سيارة رياضية أقصى اليمين تجتاز صف السيارات الواقفة في سرعة بالغة، بدا سيل الزمان في تلك اللحظة كأنما صار إلى التجمد، كأن عقله قد أعطى اشارة للزمن أن يبطئ حركته، التفت مجدداً للأمام فرأى ما كان يخشاه، اختفى الرجل الأحمر من على الاشارة وظهر بدلاً منه آخر أخضر، الآن يعبر الوافقون، هل لاحظ جميعهم السيارة المسرعة؟ أراد لو يشير للسيارة أن تقف، هذا غير واقعي ولن يؤدي إلى شيء. تجمدت قدماه بالأرض بقوة وكأنما لهما ارادتهما الخاصة، وفي لحظة مرقت فتاة بجانبه كالسهم، إنها جوليا بغطاء معطفها على رأسها لا ترى من خلاله إلا الرجل الأخضر الذي ظهر لتوه أمامها على اللوحة السوداء، صاح محروس بصوت خفيض Achtung-انتبهي، واصل الزمان في تجمده وكأن عقله قد أمسك بتلابيبه حتى لا ينفلت إلى كارثة محققة، زادت قدماه من تشبثهما بالأرض لئلا يفكر في التحرك، ابتلع ريقه وصاح بأعلى صوت ممكن هذه المرة: Achtung-انتبهي .. توقفت جوليا فجأة بينما انحنت السيارة في خفة لتفاديها مواصلة رحلتها الجهنمية، ومعها انفلت سيل الزمان مجدداً وجوليا في اثره مواصلة رحلتها بلا التفات، سمع محروس جلبة الشباب إلى جانبه يحاولون فهم ما حدث للتو ... استمر محروس في طريقه محاولاً هو الآخر فهم ما جرى، لا إلى أي مكان هذه المرة ودون أن يلوي على شيء.
***
"هل كان عدولي عن التهام شطيرة الدونر مقصوداً لانقاذ حياة تلك الفتاة؟ بل هل كان شروعي في الحمية قبل ثلاثة شهور أو قدومي لميونخ جزءً من تلك الخطة؟ هل أتممت الآن الهدف من حياتي بانقاذها؟"
"مهلاً، هل ضاعت فتاة أحلامي إلى الأبد؟ هل ينبغي لي أن أقطع الطرقات كالمجنون بحثاً عنها، أوعساها هي تعود لتشكرني؟"
"هل حقاً أنقذتها أم أنني واهم وكانت ستتوقف في كل الأحوال؟ هل كان ينبغي علي أن أفعل أكثر من ذلك وأتحرك لانقاذ حياتها كما يفعل الأبطال الخارقون في الأفلام؟ وما الفارق طالما هي حية الآن أم أن ما يهمني فعلاً هو التأكد من أنني السبب في انقاذ حياتها؟ . . . بلى، فلعل –بل ذاك ما أتمنى- في وجودي في ذلك المكان وتلك اللحظة بالذات معنى يتجاوز ذواتنا ورغباتنا الضئيلة ويشير في وضوح إلى ضرورة ما للوجود تسحق، متعالية، كل قوانين الصدفة."