الأحد، 12 أبريل 2020

كوفيد-١٩ - قصاصات انستاجرام وتأملات أخرى

استلقى خالد على الأريكة الوثيرة التي تتوسط غرفته يطالع الصور المحفوظة على هاتفه ليشاركها على انستاجرام. استدعت مخيلته مع الصور التي يطالعها ذاك الصفو الهانئ، النهار الممتد والليالي الساهرة وصخب الأصدقاء. تذكر سفرته إلى جزيرة يونانية مع أصدقائه الصيف الماضي. اختار صورة من حفل صاخب على الشاطئ في ليلة أمضاها كاملة رقصاً بلا توقف. صورته بقميصه الأبيض المفتوحة أزراره حتى منتصف صدره وضحكته الواسعة وصديقته مايكا يذكرونه بطاقة فيه كاد أن ينساها، بهجة انطفأ نورها فيه وانذوت. إلى جانب صورته على انستاجرام يرى قصة هبة محمود، زميلة المدرسة الثانوية والتي أنهت قبل شهور قليلة زيجة لم تدم شهوراً، تشارك أصدقائها موهبتها المكتشفة حديثاً فيما يبدو في الطهي. وذلك أحمد فؤاد جاره القديم في قصة أخرى ينشر كوميك ساخراً من الوباء الذي ابتدأ في الصين وانتهى منها سريعاً فيما يوحي بالمؤامرة.

خفوت في حركة الانسانية، كأن جسد الحضارة قد ضربه المرض وهد عنفوانه. الجموع الغفيرة انذوت وانحسرت حائرة إلى مساكنها، تطالع وتنتظر في دهشة -وبعض شماتة- ما هو قادم. الأنباء الآتية من بلاد الشرق والغرب مريبة ومقلقة، تارة تدعو للفزع الذي يطير على إثره المنطق وصلاح الفكر والفعل، وتصعب معه لملمة شتات العقل والحكمة، ثم تارة هي أخبار تهدئ الروع وتسكن النفوس المضطربة بهول الأحوال بأن ما هو جاري لا يستدعي الصخب الداعي للهوس. ومع هذه الأخبار وتلك يرى الناظر في مرآة حال الانسان فيندهش لضآلة مكانتها وهوانها، وفي ذات الوقت يرى منها وفيها -على غرابة ذلك- تمام تجلي العقل الانساني وجل سطوته.

قصة أخرى تظهر على انستاجرام، مها تشارك فيديو تقلد فيه جزء من مسرحية مشهورة بواسطة برنامج تيك توك، هذا مضحك جداً. أعاد خالد مطالعة القصة ثم أرسل لمها رسالة يداعبها. أثارت القصة مشاعر قديمة لدى خالد. هو لايزال قابعاً في المكان ذاته على الأريكة المتوسطة غرفته، تداعب خياله الآن مشاعر قديمة كان يكنها لمها، يرى في عاطفته القديمة تجاهها تجلٍ لصورته هو ذاته حين كان أحدث عمراً، أكثر طاقة وأقل حكمة. أين تبدأ العاطفة، ولماذا تتبدل وتصير إلى العدم؟ كيف الخلق إن كان الحكم بالتغير ثم الفناء سابقين على كل شيء؟

لماذا يشارك خالد وأصدقائه قصص ما قبل الحجر الصحي الالزامي؟ ربما، أكثر من أي وقت مضى يدرك خالد ما يفتقده حقاً، ما هو مهم له ويود لو يفعله عندما تعود الحياة لحالتها العادية. أشد ما يشتاق إليه الآن هو الشغف، الشغف بلقاء من يحب، والشغف بممارسة هواياته التي انقطع عنها قسراً. شغف ممارسة الرياضة، والسفر.

أدعية وأذكار تتضرع رجاءً في كشف الغمة ورفع البلاء، تلك قصة مريم ابراهيم اليوم على انستاجرام، تأتي في إثر ما شاركته بالأمس من أخبار عن تجارب سريرية باعثة على الأمل في الشفاء من الداء المستطير. تجارب سريرية متقنة التصميم والتخطيط تجريها شركات الدواء، كلمة العلم فيها نافذة، لا مرد فيها... العلم، كقيمة ومثل متجرد، عصي على التطويع، صلف، ولا رجاء من أن ينحني يوماُ رافعاً الانسان بذاته فوق الموجودات. الانسان، في نظر العلم، مجموعة من الذرات والجزيئات استطاعت الهروب مؤقتاً من القانون الكوني القائل بحتمية الفوضى واستحالة كل نظام في آخر المطاف إلى شتات. العلم في قبضة الانسان ككشاف ضوء يسلط شعاعه على ما خفي عنه واحتجب، لكنه في الوقت ذاته لا يقر له بأي مكانة مميزة ولا يعر غروره اعتبار. هل انتبهت مريم لتلك المفارقة، فكر خالد، أن الدعاء اليوم لإله غيبي محتجب لا يستقيم مع رجاء الأمس في نجدة تأتي على يد العلم؟

أرقام، بيانات، احصاءات ومعادلات رقمية تفضي بأعداد الاصابات والوفيات والفئات العمرية الأكثر تهديداُ من بطش الوباء. من المسئول عن ذلك كله؟ من بدأ هذا العرض العبثي ومن يحرك خيوطه؟ إن المنطق القائل بمنشأ الفيروس -وكذا الانسان- بطريق الصدفة القائمة على غزارة الأعداد والمحاولات هو منطق يستهين بمكانة الانسان ولا يعبأ قليلاً أو كثيراً بغروره المنتفش بفعل قوته المبسوطة على الأرض وامتداد حكمه وسببه للسماوات والأجرام العلوية. كيف لكائن في بهاء الانسان مدرك ومكتمل القدرة والارادة أن يكون نتيجة لا سبب؟ نتيجة لتفاعلات عمياء متكررة لا حياة فيها ولا رغبة لها أو في ذاتها لخلقه وفعله وتكوينه حتى تنتهي به، بمحض الصدفة، سيداً على الأرض باسطاً سلطانه على غيره من الأحياء؟ أليس الأدعى أن يكون سبباً لتحقيق ارادة أعلى لذات متجلية ومحتجبة تحرك وتسيّر وفي الوقت ذاته، ربما، تأمر وتحاسب؟

فيروس لا معلوم منشأه وقتاً أو مكاناً، خرقة بالية من شريط جيني لا ترتقي لمكانة الأحياء وجدت طريقها للجسد الانساني فسكنت فيه. قادرة على التكاثر والترقي بغير ادراك، وكأن مفارقة الحال ليست فقط في تفاوت الأحجام بل الأفهام أيضاً: كيف لمادة ميكروسكوبية عديمة الادراك أن تعصف بحال الانسان بكل ما وسعه من استعلان الذكاء واحكام المنطق والفعل والنشاط؟

أهي حرب منظمة مبدأها نشر الوباء ومنتهاها سلطة عالمية عاتية تنبسط بلا هوادة على الجميع من الشرق أو الغرب؟ لم لا، فغير ذلك من المنطق تستتبعه آثار القول بالصدفة في نشأة الحياة وصيرورة الناس والأحوال. ذلك أمر يستعصي ادراكه على غالب الأفهام، حتى وإن كان مبعثه صحة النية في تقصي الحق بغير حساب للمأثور والمتداول من الفهم. ذلك أنه يذكر السائل عن حال الانسان بأن وجوده وانتهائه في ذاته غريب. غرابة المنشأ والمنتهى إنما هي للمتأمل كغرابة الفيروس الذي ظهر فجأة.. ألابد لهما من صانع...؟

الجمعة، 27 يناير 2017

جوليا

"هل اصطحبت مفاتيحي؟" فكرت جوليا لنفسها وهي تفتش في محتويات حقيبتها عن المفاتيح للمرة الثانية في الدقيقة الأخيرة، هي حانقة للغاية ولا تكاد تملك من فكرها أو ذاكرتها شيئاً الآن، بداخلها حمم من الغضب ستكبها على باستيان صديقها (أو صديقها السابق إن شئت) لحظة أن تراه، أو ربما يندلع بركان غضبها في وجه أول عابر في الطريق يرتكب رذالة بحقها، كم تتمنى أن يعترض طريقها شاباً يحاول بسخافة ملاطفتها فتسدد إلى وجهه سلسلة اللكمات التي تعلمتها في دروس الدفاع عن النفس التي حضرتها العام الفائت حتى تدمي أنفه ويسقط على وجهه مغشياً عليه، أو أن تجتمع الأقدار فتلقي بالصدفة في طريقها فتلتقي مديرها بالعمل الذي لطالما أثقل مشاعرها بصلافته وتقلبات مزاجه حتى أنها صارت تمضي عطلات نهاية الاسبوع تبكي دون سبب واضح، تتمنى لو تراه الآن فتفرغ على مسامعه ما ظل حبيساً بداخلها، ستخبره كم تكرهه وكم تكره الشهور القليلة الباقية فيها تحت امرته في العمل، ستخبره أنه دون علمه (أو بعلمه ربما) جاثم على حياتها كمرض كئيب، فلربما لو أخرجت ما بداخلها لخفت ذلك البركان.
في أول خطوة لها خارج الباب الحديدي لمنزلها انزلقت قدمها المسرعة فوق الجليد المجمد على الرصيف، كادت تنكفئ على ظهرها لولا حركة بهلوانية بيديها في الهواء وبعض الحظ، ركلت حانقة بسن حذائها الصغير قطعة الجليد الزلقة الملتصقة على جانب الرصيف ثم رفعت غطاء معطفها الشتوي المغطى بالفرو على رأسها وتأكدت من احكام وضع سماعات الأذن واتصالها بهاتفها، زادت من صوت الموسيقى بلا التفات لترى إن كان أحدهم قد لاحظ الفقرة الأكروباتية الفائتة ومضت مسرعة وبحذر من الثلوج المتجمدة على منخفض الطريق الواسع، على مبعدة رأت اشارة المشاة حمراء وفي انتظار المرور أمامها أربعة من الرجال ضخام الجثث، تمهلت قليلاً وهي تنظر إلى الاشارة المعاكسة حتى تضبط توقيت وصولها لرصيف الاشارة مع توقيت تبديل ضوء الاشارتين فلا تضطر للوقوف وسطهم.
***
"ياللغرابة، أنا لم أر السيارة قادمة على الاطلاق، وكنت أسمع الموسيقى الصاخبة، كيف إذن توقفت فجأة في ذلك التوقيت المدهش؟! كم أنا ممتنة أنني لازلت أمشي وأتنفس وأرى الأشياء من حولي، سأخفض من صوت الموسيقى في أذني وأمضي في طريقي إليك، يا عزيزي باستيان، بلا غضب على الدنيا".
***
كان أحد أولئك الواقفين في انتظار الاشارة هو محروس. ليست تلك المرة الأولى له في زيارة ميونخ، كان قد زارها قبل عامين في مهمة عمل أخرى. اليوم هو الأول في أجازته وقد قرر أن يمضيه وحيداً في اكتشاف المدينة، كان قد انصرف لتوه من زيارة أحد معارض اللوحات المشهورة، اليوم لايزال في منتصفه والسماء رمادية لا يكاد يتميز فيها قرص الشمس المحتجب وراء السحب الكثيفة،  غلب محروس الجوع والارهاق، هو مزيج ألفه منذ بدأ رحلة فقدان الوزن قبل ثلاثة شهور مدفوعاً برغبة في التخلص من ذلك الكرش الضخم ودهون الوجه والرقبة الذين يحملهم مسئولية عدم ارتباطه برغم استعداده المادي والمعنوي الكاملين منذ بضعة سنوات. أمضى العشر دقائق الفائتة جيئة وذهاباً في الميدان ذاته في حين يصارع الجوع بضراوة في ربوع معدته الخاوية احساسه بالذنب لقرار كسر الحمية. توقف أمام مطعم تركي يصنع شطائر الدونر الشبيهة بالشاورما، كاد يدلف للداخل حتى عدل في اللحظة الأخيرة حين فكر أنه إذا ما قرر أن يكسر روتينه الغذائي في ميونخ فلابد إذاً من تجربة شيئاً مختلفاً وليس مجرد سندوتش شاورما آخر كالذي اعتاد على أكله. عاد للميدان نفسه ووقف للمرة الثانية في انتظار الاشارة يحدق في الأشياء والناس من حوله، ذهنه صاف بعد ثلاث ساعات أمضاها في مشاهدة لوحات فنية تجسد معاني الحضارة والفلسفة الغربية، أدرك أنه الآن يعيش واحدة من لحظات صفاء البال لمسافر وحيد غريب في مدينة أوروبية. رأى سيل السيارات المار أمامه ينقطع، نظر لليسار فوجد السيارات تتباطء متراصة عند خط الاشارة، هي ثواني وينقلب الرجل الأحمر أمامه لرجل أخضر مؤذناً له والشباب الثلاثة الواقفين إلى جانبه بالمرور، وضع يديه الباردتين في جيب معطفه ثم ألقى نظرة خاطفة أخرى لليسار في تلقائية، فرأى سيارة رياضية أقصى اليمين تجتاز صف السيارات الواقفة في سرعة بالغة، بدا سيل الزمان في تلك اللحظة كأنما صار إلى التجمد، كأن عقله قد أعطى اشارة للزمن أن يبطئ حركته، التفت مجدداً للأمام فرأى ما كان يخشاه، اختفى الرجل الأحمر من على الاشارة وظهر بدلاً منه آخر أخضر، الآن يعبر الوافقون، هل لاحظ جميعهم السيارة المسرعة؟ أراد لو يشير للسيارة أن تقف، هذا غير واقعي ولن يؤدي إلى شيء. تجمدت قدماه بالأرض بقوة وكأنما لهما ارادتهما الخاصة، وفي لحظة مرقت فتاة بجانبه كالسهم، إنها جوليا بغطاء معطفها على رأسها لا ترى من خلاله إلا الرجل الأخضر الذي ظهر لتوه أمامها على اللوحة السوداء، صاح محروس بصوت خفيض Achtung-انتبهي، واصل الزمان في تجمده وكأن عقله قد أمسك بتلابيبه حتى لا ينفلت إلى كارثة محققة، زادت قدماه من تشبثهما بالأرض لئلا يفكر في التحرك، ابتلع ريقه وصاح بأعلى صوت ممكن هذه المرة: Achtung-انتبهي .. توقفت جوليا فجأة بينما انحنت السيارة في خفة لتفاديها مواصلة رحلتها الجهنمية، ومعها انفلت سيل الزمان مجدداً وجوليا في اثره مواصلة رحلتها بلا التفات، سمع محروس جلبة الشباب إلى جانبه يحاولون فهم ما حدث للتو ... استمر محروس في طريقه محاولاً هو الآخر فهم ما جرى، لا إلى أي مكان هذه المرة ودون أن يلوي على شيء.
***
"هل كان عدولي عن التهام شطيرة الدونر مقصوداً لانقاذ حياة تلك الفتاة؟ بل هل كان شروعي في الحمية قبل ثلاثة شهور أو قدومي لميونخ جزءً من تلك الخطة؟ هل أتممت الآن الهدف من حياتي بانقاذها؟"
"مهلاً، هل ضاعت فتاة أحلامي إلى الأبد؟ هل ينبغي لي أن أقطع الطرقات كالمجنون بحثاً عنها، أوعساها هي تعود لتشكرني؟"
"هل حقاً أنقذتها أم أنني واهم وكانت ستتوقف في كل الأحوال؟ هل كان ينبغي علي أن أفعل أكثر من ذلك وأتحرك لانقاذ حياتها كما يفعل الأبطال الخارقون في الأفلام؟ وما الفارق طالما هي حية الآن أم أن ما يهمني فعلاً هو التأكد من أنني السبب في انقاذ حياتها؟ . . . بلى، فلعل –بل ذاك ما أتمنى- في وجودي في ذلك المكان وتلك اللحظة بالذات معنى يتجاوز ذواتنا ورغباتنا الضئيلة ويشير في وضوح إلى ضرورة ما للوجود تسحق، متعالية، كل قوانين الصدفة."

الجمعة، 6 نوفمبر 2015

كريستوف

كان نهاراً آخر بارداً قد أشرق على حي نويكولن في جنوب العاصمة الألمانية برلين، في مخبز ومقهى صغير كان كريستوف جالساً في بقعته المفضلة يرتشف ما تبقى من قدح الشاي الأخضر وينفض عن بنطاله فتات المخبوزات الطازجة التي التهمها لتوه، لم تكن من هواياته مطالعة الصحف أو القراءة، ليس بسبب ضعف الابصار الذي حل ضيفاً ثقيلاً عليه في الأعوام الأخيرة، لكن بسبب ضيقه بكل خبر جديد في الصحف أو نشرات الأخبار، لا جديد إلا عن الحروب والأمراض وفشل أهل السياسة والافتصاد في إدارة الفوضى التي خلقها سابقوهم، صار العالم ركام من المآسي، وصارت غاية وكالات الأنباء تذكير الناس بالحقيقة الأزلية التي مفادها أن الانسان والعالم يسيران سوياً إلى رحلة فناء محتوم. عندما جاءت النادلة ترفع من أمامه قدح الشاي والطبق الفارغ، سألته بلطف إن كانت فطيرة الجبن قد أعجبته، أومأ كريستوف مبتسماً بدوره وأجابها: تماماً كما اعتادت هيلينا أن تحضرها. ضحكت في بساطة واستدارت حاملة صينيتها عائدة للمطبخ، قوامها ممشوق كمهرة تشق صحاري العرب أو الشمال الأفريقي، لعل شعرها الفاحم وأهداب عينيها الجامحة دليل على أصل عربي. لم يسألها، اكتفى بافتراض أن أباها عربي وقد تزوج امرأة من ألمانيا الغربية، لعل أمها تكون واحدة من الألمانيات الائي عرفن غطاء الرأس كبدويات الصحاري، أو ربما تكون من تلك النسوة المستترات في لباس أسود الائي لا يخرجن من بيوتهن إلا بإذن ولا يزورن بيوت أهليهن إلا بعد مباحثات طويلة مع أزواجهن. ظل يراقبها صامتاً وكل ذلك يجري في باطنه، وعلى عكس ما أظهر من لطف أراد لو يبادرها بسؤال فج: هل كان أبوك يضرب أمك حتى يكسر عظامها؟ هكذا رأى في التلفاز في إحدى البرامج الوثائقية عن الحياة في أفغانستان، المرأة هنالك لا تخرج من بيت زوجها، وإذا خرجت فبعد إذن ومشقة، وتكون حين خروجها للشارع مسربلة بعباءة لونها قاتم منفر والغرض واضح، فالمجتمع كله واقع في قبضة ذكورية، والمرأة فيه متاع لصاحب الحق والملكية، ومطمع لكل متنطع ومختل، وهم هناك يضربون زوجاتهم وأبنائهم، ويربونهم فقط على القرآن، كل شيء من ذلك الكتاب، حتى العلوم والجغرافيا والحساب! شأنهم في ذلك شأن كل تلك الدول التي دخلها الاسلام.. إنها أمم عجيبة تثير النفور إلى قلبه ولا يساوره إليها أي فضول أو عاطفة، ولا عجب لديه أنها تعيش في ذيل الحضارة. لو حل بأوروبا الخراب يوماً ما وهي فكرة غير بعيدة عن من هم مثله من الميالين للتشاؤم، إن حدث ذلك وسأله أحدهم إلى أي بلد يفضل النزوح، فستكون اجابته قاطعة بلا ثانية واحدة من تفكير: أي دولة غير تلك الدول المسلمة. ظل يتفحصها في هدوء في غدوها ورواحها، يصور لنفسه طفولة بائسة عاشتها، ومشهد هروبها من بيت والديها حين حاول أباها أن يفرض عليها الزواج من صديق عربي له يسكن قرية مجاورة لقريتهم في ريف ألمانيا أو النمسا أو سويسرا، مغامرة هروبها إلى المدينة الكبيرة فصل ضخم في تلك المسرحية الوهمية التي راح يخط تفاصيلها في ذهنه بمزيج من الاشفاق والتسلية.

سرح ذهن كريستوف إلى قضية الايمان التي طرحها جانباً منذ زمن، البعض يقول أن الله هجر العالم، وهو لذاك الرأي أميل، والبعض الآخر تراه مؤمناً بإله له في كل شاغلة من حياة الناس ارادة وسبب، والفرد من أولئك إذا أوغل في بحور التدين وتمادى، تجده يسير في الشوارع والساحات خاطباً في الناس زاعقاً فيهم، يدعوهم للعودة لحظيرة الرب قبل فوات الأوان. أولئك المتحمسين المبشرين بنهاية الزمان مدعاة للضحك والتأمل أحياناً، إن كان في العالم فريقان أحدهما عاقل والآخر مجنون، فأي فريق نحن وأي فريق هم؟ هو لا يعتقد في الإله، يراه أكذوبة خلقها البشر لينعموا بالسلام الداخلي والكسل، آراؤه أحياناً ما تجلب عليه انتقادات الناس من حوله، كان آخرها رأيه في أزمة اللاجئين العرب الآخذين في اغراق أوروبا والذي أذاعه على الانترنت دون تدبر بعدما شاهد مقطع يجز فيه أحدهم رأس أسير أوروبي في تلك البلاد البعيدة وهو يصيح "الله أكبر" في نشوة فرح جنوني، ألطف ما وصفهم به أنهم كجراثيم أو أورام سرطانية ما أن ستحل بالجسد الغربي حتى تفتك به. هو مفرط في تشاؤمه وعصبيته ضد أهل الشرق، وإذا واتته الفرصة وربما بعض الخمر فهو قادر على قول ما هو أشنع. غير أن عصبيته لا تنسحب على سكان الشرق برمتهم، فالأمم المؤمنة بالبوذية والهندوسية مثلاً في رأيه في غالبها أمم مسالمة ولا تجنح للعنف إلا فيما ندر، ولا تعتقد في فكرة الغزو ومبادرة الاعتداء، والرجال هناك لينون مشهورون بالذكاء والعمل بالتجارة، ويغلب عليهم هدوء الطبع والمعشر. كانت هيلينا هي الوحيدة القادرة على كبح شطحاته، لم تتوافق أفكارهما أبداً، كانا على طرفي نقيض، هي تؤمن بإله يخلق ويسيّر ويزن الأمور بميزان عدل، تكره الاعتقاد بأن العالم جاء بالصدفة حتى وإن وقف العلم ببروده وصلفه راسخاً إلى جانب هذه الحجة. كانت نقاشاتهم هادئة بلا انفعال أو توتر، لم يدّع أيهما أبداً يقين مطلق، وكان أثر تلك النقاشات على كليهما لطيف مهدئ ويقيهما شر الغلو والتشدد في الرأي، وكان ذلك يغذي بداخل كل منهما شك حميد فيما يركن إليه من اعتقاد، ودائماً ما كان الأمر ينتهي إلى تذكيرهما بأنه أياً ما كان مبعث الضياء والالهام في الروح فهو ناقص ولا يرقى لليقين الخالص، ولا يستأهل غروراً ولا استعلاءً أحمق على العالم. فات على فراقهما ما يزيد على الثلاث أعوام الآن، وهو منذ ذلك الحين لا يجد من يكبح جماح شطحاته ويروض وحش خصومته مع الأديان والآلهة.


كان سقوط الجليد بالخارج قد توقف. أحكم ربط الكوفية حول رقبته وارتدى قفازه الجلدي، ترك الحساب وزاد عليه اثنان يورو للنادلة ذات الشعر الفاحم. أشار لها مبتسماً وهو يهم بالمغادرة. انتابته فور خروجه من المقهى نوبة سعال مباغتة، الهواء بارد وقوي هذا الصباح، آمل ألا يكون قد أصابته أنفلونزا، آخر مرة أصيب بنزلة برد وحمى شديدة قعد على اثرها أسبوعاً كاملاً في الفراش. نعم هو ألماني الجنسية ويتمتع بمزايا المواطن الألماني كاملة، رعايته الصحية مسئولية الدولة وذلك بلا شك شيء رائع ولكنه لا يكفي عنه مخاوف تقدم العمر والشيخوخة، وهو لذلك يسأل نفسه دوماً: أكان محقاً حين قرر العزوف عن الانجاب والاعتماد على الدولة في رعايته حين يصير به العمر إلى إلى ما صار إليه اليوم؟ منذ توفيت زوجته هيلينا وهو يسأل نفسه مؤخراً ويلح في السؤال، كيف مضت حياته ولم يجلب للدنيا ابن أو ابنة؟ مر الموضوع بالتأكيد بذهنه وقت أن كان قادراً، وأسهب فيه مع هيلينا نقاشاً وبحثاً، ربما دار ذلك النقاش في ظهيرة صيفية مشمسة بعدما فرغا من لعب كرة القدم سوياً في احدى الحدائق العامة، أو لعله كان في تلك الرحلة الطويلة التي جابا فيها أوروبا طولاً وعرضاً طوال شهرين كاملين، لا يذكر تحديداً فقد كان ذلك منذ زمن طويل، لكنه يذكر أنهما خلصا في ذلك الشأن إلى قرار واعٍ ومسبب، والآن جاء أوان دفع الثمن بعدما تركته هيلينا وحيداً في الحياة وفي هذه المدينة الكبيرة. أهله أو من بقي منهم منثورين في الأرض كحبات عقد منفرط، إذا ذكره أحدهم فببطاقة معايدة أو رسالة على الهاتف من العام إلى العام. زيارته الدورية للطبيب قاسية كقسوة الهواء الذي يخترق معطفه الشتوي المبطن بالفرو، أقسى ما فيها نظرة الطبيب الجامدة وهو يقرأ عليه نتائج التحليلات والفحص مؤكداً أن حالته جيدة، بامكانه هو قراءة الأرقام لنفسه إن شاء، وإن لم ير رقماً باللون الأحمر أو مثل ذلك فحالته في الغالب جيدة، ما حاجته إلى طبيب في تلك المسألة؟ ما يريده حقاً هو طبيب ينظر إلى عينيه حين يقرأ عليه مدلول تلك الأرقام، يبتسم إليه مطمئناً ويقول له أنا أراك انساناً كاملاً، أنت تعني لي أكثر من ذلك الملف أو تلك الورقة التي أمسكها بين يدي الآن، لو فعل طبيبه ذلك ثم أنزل عليه خبر اصابته بالسرطان أو تليف الكبد أو حتى قال له بقي لك من العمر اسبوعين دون ذكر السبب لربما كانت الزيارة أكثر راحة لقلبه. اشتد عليه السعال فوقف يلتقط أنفاسه، ثم عاد يسائل نفسه مشدوهاً من أثر السعال المفاجئ الذي كأنما انتشله فجأة لعالم مظلم موحش يهابه ولا تطيق روحه على تحمله دون رفقة من أهل، أي حمق ورعونة ارتكبنا يا هيلينا، وأي نذالة تلك، تتركيني هكذا وحدي لأتجرع ثمن قراراً اتخذناه سوياً وقت أن ظننا أننا سنعيش على ظهر هذه الدنيا إلى الأبد؟

الأحد، 12 يناير 2014

أحدهما مفرط في دينه، والآخر خائن لتراب وطنه

(1)


- أنا هنا منذ ثمانية سنوات وبضعة شهور، وصلت إلى مصر بصحبة رفقاء من اللاجئين الصوماليين بعدما تعرفنا على أحد المهربين الذين يتقاضون عمولة نظير المساعدة في اجتياز الحدود.. قبل هروبي بيومين رأيت أخوتي وهم يقتلون في حافلة كنا نستقلها.

صمت قليلاً، فتابعته حتى أكمل: أنا لم أرى أمي منذ ثمانية سنوات. رفع عينيه الشابتين ناظراً إلى مبتسماً ثم سأل: متى رأيت والدتك آخر مرة، صباح اليوم؟ .. أطرق مرة أخرى لأسفل متابعاً: هل تدري ما الحكاية، أنتم تملكون جيشاً قوياً، لذلك لازالت دولتكم باقية على حالها، أما نحن... لم يكمل كلماته حتى أشاح بوجهه بعيداً كأنما تثير ذكرى بلاده ألماً دفيناً بداخله، ألم الصراع ودوائر الشر والجنون والقتل البخس الذي لا يتوقف.. هو لا يكاد يذكر بلاده حتى يُنكئ بداخله جرحاً غائراً لا يندمل... أنتم تملكون جيشاً قوياً، قالها غير عابئ باخفاء حسده وانصرف.



(2)


- لقد اصطحبوا خالك مرة أخرى إلى السجن. قالت بنبرة حزينة متماسكة. -لا ندري تحديداً من هم أو إلى أين اصطحبوه، استيقظنا في ساعة متأخرة على طرق عنيف لنجد من يسألون عنه ويقولون أنه مطلوب بسبب اشتراكه في مظاهرات تنظيم الاخوان، وأنه بذلك يساند الارهاب. صمتت برهة ثم استأنفت: لقد عدنا كما الأيام السابقة، وهذه المرة أسوأ.

حاول أن يتمالك نفسه وهو يتحدث إلى زوجة خاله صبيحة يوم اعتقاله، ذلك الرجل الذي يمتلك من الجلد والدأب ما يكفي لاشعال النشاط في حي ومدينة بأكملها. أجهش بالبكاء فور اغلاقه المكالمة، تذكر حماس الرجل في أوقات الابتلاء وأوقات النصر، بكى بكاء قلب يكتوي بنار الحسرة والألم. كيف عساه يمضي ساعاته الأولى في سجن الطغاة؟ وإلى متى هي باقية دولة العسكريين القامعين العتاة المجرمين؟ وأي بلاء أشرف وأعظم ممن داوم في صبره على المحنة فاتصلت مقاومته جيل من وراء جيل؟ دولة العسكر باقية ما بقي العسكر، تلك هي العظة والدرس الذي تعلمناه عبر آلام السنوات الطوال، فمتى زالوا وانقضوا، انقضت دولتهم.

***

برغم الخطوب والأزمات الكبيرة، أبقى الصديقان القديمان على صداقتهما على الفيسبوك، وإن جفت أواصر الاتصال بينهما في العالم الحقيقي. لا تتعدى علاقتهما أن يزور أحدهما صفحة الآخر مطلعاً مشفقاً ممتلئاً قلبه بالرثاء، يتفقد ما ينشره صديقه القديم ولا يدري كيف صار حاله إلى ذلك الحد من الجهل وانعدام الرؤية؟
يكاد أحدهما يجن من استهانة صديقه بما هو صريح من أوامر الدين وخذلان الحق والقعود عن نصرة حملة رايته من أصحاب الصبر والجلد ساعة الامتحان، بينما الآخر متعجب من تمادي صديقه وسعيه الدؤوب لاشعال فوضى وشر إن بدءا يوماً لا يكادا ينتهيان.. أحدهما مفرط في دينه والآخر خائن لتراب وطنه، وكأن من استدعى يوماً القومية الدينية ومن سلك دربه ليناطح بها عقيدة وطنية راسخة لم يكن يتخيل أن تصل العصبية بأهليها اليوم إلى ذلك المدى البعيد..؟!

الخميس، 10 يناير 2013

حقنة بنج

لسوء حظه أنني ما أن رأيته حتى تذكرت وجهه على الفور، تذكرت قدمه الملفولة بالجبس ومشيته البطيئة وعكازه، وتذكرت كيف بدا في زيارته السابقة حين أتى للعيادة في مصاحبة صديق له ونظرة الرعب التي كادت أن تقفز من عينيه حين رأى حقنة البنج والكلمات التي راح يرددها في تكرار وبصوت عالٍ دون وعي "من غير وجع والنبي – أنا بخاف من دكاترة الأسنان"، وتلك الحشرجات غير المفهومة التي أخذت تطلقها حنجرته بغير سبب واضح معبرة عن مدى اضطرابه وارتجاف أوصاله من تلقي الحقنة. تذكرت صوته الذي كان يحاكي أصوات الأطفال عندما سألته عن سر مبالغته غير المبررة ازاء "شكة" الحقنة وحين قال بنبرة ملؤها الانكسار والمسكنة دون اكتراث لضحكات صديقه العابثة: "أصلي بخاف من البنج!". تذكرت كل ذلك حين طالعني في زيارة أخرى بعدها بأيام وقد خلع عن نفسه رداء الخوف، فقد أتى هذه المرة مصاحبا زوجته. انطلق لسان الرجل ثائرا في كل صوب، لا يخشى حقنة ولا يهاب "شكة أبرة"، وصار الرجل بقدرة قادر يمتلك قلبا حديدي ! استبدل قاموس الرعب بمختلف مفردات الشجاعة، وتأوهات العيال بصيحات الرجال، وحين مازحته بقصد المداعبة:"ضرسك المرة دي هيحتاج حقنتين بنج مش حقنة واحدة"، وجدته يجيبني بثبات المحارب المغوار في المعركة وهو ينظر صوب زوجته بصوت كاد أن ينفجر له زجاج الغرفة: "أدّي يا دكتور ولا يهمك إن شاء الله عشر حُقن !". وعلى الرغم من توهجهما وبريقهما المستعر، إلا أن عينا الرجل سرعان ما أنطفأ ألق الشجاعة فيهما لحظة أن وقعتا على حقنة البنج، وانقلبتا من فورهما لسيرتهما الأولى، وما أن اطمئن الرجل لمواراتي بظهري لزوجته عن رؤيته، حتى انطلق يستجدي انسانيتي بصوت هامس لم يكد يخرج من فمه من فرط الخوف:"بالراحة يا دكتور والنبي، أصل أنت عارف .. أنا مش بحب الحُقن !". جاء صوت الزوجة من ورائي مباغتا الرجل:"سَمّي وماتخافش"، فظهر عليه الوجل واضطرب كأنما انكشف أمره، فعلى الفور بادرتها بالاجابة عنه لأجنبه حرج الرد عليها بنبرة راجفة تطيح بمجهوده المضني المبذول منذ جاءا:"لأ هو جامد قوي، ومش بيهمه حقنة البنج"، فندت عنه نظرة ارتياح محملة بمعاني العرفان وكأنما تقول لي "تشكر يا زوق"، فرددت عليه النظرة بنظرة أخرى باسمة تقول "الرجالة لبعضيهم".

انتهت جلسة علاج العصب، وغادر الاثنان؛ الرجل وفي اثره المرأة يسيران في تؤدة وعلى مهل، استند الرجل على عكازه وقد بدا وكأنه لم يعتد استخدامه بشكل كامل بعد، لكنه –مدركا لمصاحبة زوجته- لم يجعل من عكازه ذلك أداة تفرط في أسباب وقاره، فبذل جهدا مضاعفا حتى يمشي مشية الرجال التي يؤديها مستعينا بعوامل الوراثة الجينية والتراث الشعبي في خليطهما الأزلي المدهش، فاستقام ظهره، واستطال الرجل منفوشا كالطاووس مختالا بسحر هيبته، وخلفه سارت المرأة في اباء مشمولة بما يفيض عليها رجلها من فخر واعتزاز واحسان وكرم.